17 - 08 - 2025

في حضرة الكلمة الإلهية | وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ

في حضرة الكلمة الإلهية | وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ

﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88] 

آيةٌ تفتح للمتدبّر بابًا واسعًا من التأمل في مشهدٍ عظيم، يجمع بين دقة البيان القرآني وعمق الحقيقة الكونية.

1- تفسير الآية من عدة مصادر: يذهب جمهور المفسرين إلى أن الآية تصف حال الجبال يوم القيامة، إذ تُرى في الظاهر ثابتة بينما هي في الواقع تُسَيَّر وتزول كالسحاب، حتى تصير سرابًا وتتناثر كالهَبَاءِ. أورد ابن كثير والطبري والقرطبي هذا المعنى، مستشهدين بآيات أخرى كقوله تعالى: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾. وذكر ابن عاشور أن التشبيه بمرور السحاب يوضح نوع الحركة: انتقال هادئ مطّرد، كالسحاب الذي يبدو ساكنًا في الأفق وهو يتحرك، وأن ترتيب أجزاء الآية ينتقل بالقارئ من الحسبان إلى الحقيقة. كما نصّ بعض المعاصرين كابن باز على أن الآية تتحدث عن الآخرة لا عن الدنيا، وأن الجبال الآن رواسي للأرض.

2- الإعجاز اللغوي: جاءت الأفعال بالمضارع "تحسبها" و"تمر" لاستحضار المشهد وجعله حاضرًا أمام السامع، في أسلوبٍ يصفه البلاغيون بـ"استحضار الصورة". والتشبيه بـ"مرّ السحاب" تشبيه تمثيلي يبرز سلاسة الحركة وهدوءها، ويعطي صورة مألوفة للذهن، وهو أبلغ من أي تشبيه آخر قد يوحي بالضجيج أو الاضطراب. أما ترتيب الجملة، فقد سبق ذكر الرؤية ثم الحسبان ثم الحقيقة، وهذا النَّظم ينقل المتلقي من ظاهر الثبات إلى كشف الحركة، وهو من إحكام النظم القرآني الذي تحدث عنه الجرجاني.

3- الإعجاز العلمي: مع أن جمهور المفسرين يقرّر أن الآية في سياق الآخرة، فإن النص القرآني يعرض قانونًا بصريًا عامًا: إمكان أن يُرى الثابت في الحقيقة متحركًا. وهذا يوافق ما كشفه العلم الحديث من أن الأرض بما فيها الجبال تتحرك رغم إحساسنا بثباتها. فالأرض تدور حول محورها بسرعة تقارب 1670 كم/ساعة عند خط الاستواء، ومع ذلك لا نشعر بالحركة لثبات سرعتها ومصاحبة الغلاف الجوي لنا. كما أن القارات والجبال تتحرك ببطء شديد نتيجة حركة الصفائح التكتونية، وهو ما يجعل السلاسل الجبلية في انتقال دائم على مدى زمني طويل. هذه الحقائق لا تعني أن الآية نصٌّ صريح في دوران الأرض، لكنها تحتمل الإشارة الكونية إلى هذا المبدأ العام للحركة، دون مخالفة للتفسير الأصلي.

4- فائدة قرآنية: الآية تذكّر بأن ظاهر الأشياء لا يكفي للحكم على حقيقتها، فالثابت في أعيننا قد يكون في حركة عند الله، وأن كل ما في الكون خاضع لصنع الله المتقن، الذي أحاط علمه بكل ما نفعل. فهي دعوة للتأمل في الصنعة الإلهية، وربط المعرفة العلمية بتعظيم الخالق لا بالاكتفاء بالمعلومة المجردة.

المصادر:

1. تفسير ابن كثير – سورة النمل آية 88.

2. تفسير الطبري – سورة النمل آية 88.

3. تفسير القرطبي – سورة النمل آية 88.

4. التحرير والتنوير لابن عاشور – سورة النمل آية 88.

5. الكشاف للزمخشري.

6. فتاوى ابن باز – باب التفسير.

7. دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني.

8. دراسات بلاغية في التشبيه القرآني.

9. مقالات عربية علمية عن دوران الأرض.

10. الموسوعة العربية – تكتونية الصفائح.
--------------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى

مقالات اخرى للكاتب

في حضرة الكلمة الإلهية | وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ